الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء : إذا عضل سيقت إلينا كأنها * جداية شرك معلمات الحواجب أقمنا لهم طعنا مبيرا منكلا * وحزناهم بالضرب من كل جانب فلولا لواء الحارثية أصبحوا * يباعون في الأسواق بيع الجلائب قال ابن هشام : وهذه الأبيات في أبيات له . قال ابن إسحاق : وانكشف المسلمون ، فأصاب فيهم العدو ، وكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة ، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدُثّ بالحجارة حتى وقع لشقه ، فأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص . قال ابن إسحاق : فحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وشج في وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : قال ابن هشام : وذكر ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري : أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وجرح شفته السفلى ، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته ، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون ، وهم لا يعلمون ؛ فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما ، ومص مالك بن سنان ، أبو أبي سعيد الخدري ، الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مس دمي دمه لم تصبه النار " . قال ابن هشام : وذكر عبدالعزيز بن محمد الدراوردي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الارض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله . وذكر ، يعني عبدالعزيز الدراوردي ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة ، عن عيسى بن طلحة ، عن عائشة ، عن أبي بكر الصديق : أن أبا عبيدة بن الجراح نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسقطت ثنيته ، ثم نزع الأخرى ، فسقطت ثنيته الأخرى ، فكان ساقط الثنيتين . قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت لعتبة بن أبي وقاص : إذا الله جازى معشرا بفعالهم * وضرهم الرحمن رب المشارق فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك * ولقَّاك قبل الموت إحدى الصواعق بسطت يمينا للنبي تعمدا * فأدميت فاه قطعت بالبوارق فهلا ذكرت الله والمنزل الذي * تصير اليه عند احدى البوائق قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما . قال ابن إسحاق : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشية القوم : مَن رجل يشري لنا نفسه ؟ كما حدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن عمرو ، قال : فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن يزيد بن السكن ، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجلا ثم رجلا ، يقتلون دونه ، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة ، فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدنوه مني ، فأدنوه منه ، فوسده قدمه ، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد . فذكر سعيد بن أبي زيد الأنصاري : أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول : دخلت على أم عمارة ، فقلت لها : يا خالة ، أخبريني خبرك ، فقالت خرجت : أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أصحابه ، والدولة والريح للمسلمين . فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقمت أباشر القتال ، وأذب عنه بالسيف ، وأرمي عن القوس ، حتى خلصت الجراح إليّ . قالت : فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور ، فقلت : من أصابك بهذا ؟ قالت ابن قمئة ، أقمأه الله ! لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول : دلوني على محمد ، فلا نجوت إن نجا ، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير ، وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضربني هذه الضربة ، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات ، ولكن عدو الله كان عليه درعان . قال ابن إسحاق : وترَّس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه ، يقع النبل في ظهره ، وهو منحن عليه ، حتى كثر فيه النبل ، ورمي سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل ، وهو يقول : " ارم فداك أبي وأمي " حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول : ارم به . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها ، فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده ، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنته . قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عيله وسلم ردها بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما . قال ابن إسحاق : وحدثني القاسم بن عبدالرحمن بن رافع أخو بني عدي بن النجار ، قال : انتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتى قتل ، وبه سمى أنس بن مالك . قال ابن إسحاق : فحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة ، فما عرفه إلا أخته ، عرفته ببنانه . قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أن عبدالرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر ، إصابة بعضها في رجله فعرج . قال ابن إسحاق : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أنصت . قال ابن إسحاق : فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، رضوان الله عليهم . والحارث بن الصمة ، ورهط من المسلمين . قال : فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ادركة أبي بن خلف وهو يقول : أي محمد ، لانجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ؛ فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، يقول بعض القوم فيما ذكر لي : فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة ، تطايرنا بها تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها - قال ابن هشام : الشعراء ذباب له لدغ - ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً . قال ابن هشام : تدأدأ ، يقول : تقلب عن فرسه فجعل يتدحرج . قال إسحاق وكان أبيُّ بن خلف ، كما حدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فيقول : يا محمد إن عندي العوذ ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله . فلما رجع إلى قريش وقد خدشة في عنقه خدشا غير كبير ، فاحتقن الدم ، قال : قتلني والله محمد ! قالوا له : ذهب والله فؤادك ! والله إنْ بك من بأس ؛ قال : إنه قد كان قال لي بمكة : أنا أقتلك . فوالله لو بصق عليَّ لقتلني . فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة . قال ابن إسحاق : فقال حسَّان بن ثابت في ذلك : لقد ورث الضلالة عن أبيه * أُبي يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم * وتوعده وأنت به جهول وقد قتلت بنو النجار منكم * أمية إذ يغوث يا عقيل وتبّ ابنا ربيعة إذ أطاعا * أبا جهل لأمهما الهبول وأفلت حارث لما شغلنا * بأسر القوم أسرته فليل قال ابن هشام : أسرته : قبيلته . وقال حسَّان بن ثابت أيضاً في ذلك : ألا من مبلغ عني أبيا * لقد ألقيت في سحق السعير تمنى بالضلالة من بعيد * وتقسم أن قدرت مع النذور تمنيك الأماني من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ * كريم البيت ليس بذي فجور له فضل على الأحياء طرا * إذا نابت ملمات الأمور قال : فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب ، حتى ملأ درقته ماء من المهراس ، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه ، فوجد له ريحا ، فعافه فلم يشرب منه ، وغسل عن وجهه الدم ، وصب على رأسه وهو يقول : اشتد غضب الله على من دمَّى وجه نبيه . قال ابن إسحاق : فحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول : والله ما حرصت على قتل رجل قط كحرصي حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص . وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضاً فيه قومه ، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله علي من دمَّى وجه رسوله. قال ابن إسحاق : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعب ، معه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل . قال ابن هشام : كان على تلك الخيل خالد بن الوليد . قال ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا ! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل . قال ابن إسحاق : ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها ، وقد كان بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض صلى الله عليه وسلم لم يستطع ، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله ، فنهض به ، حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عبدالله بن الزبير ، عن الزبير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يقول : أوجب طلحة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع . قال ابن هشام : وبلغني عن عكرمة عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنية في الشعب . قال ابن هشام : وذكر عمر مولى غفرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التي أصابته ، وصلى المسلمون خلفه قعودا . قال ابن إسحاق : وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى بعضهم المنقَّى ، دون الأعوص . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، رفع حسيل بن جابر ، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان ، وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان ، فقال أحدهما لصاحبه . وهما شيخان كبيران : ما أبا لك ، ما تنتظر ؟ فوالله لا بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ، إنما نحن هامة اليوم أو غد ، أفلا نأخذ أسيافنا ، ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذا أسيافهما ثم خرجا ، حتى دخلا في الناس ، ولم يعلم بهما ، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون ، وأما حسيل بن جابر ، فاختلفت عليه أسياف المسلمين ، فقتلوه ولا يعرفونه ، فقال حذيفة : أبى ؛ فقالوا : والله إن عرفناه ، وصدقوا . قال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه ؛ فتصدق حذيفة بديته على المسلمين ؛ فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن رجلا منهم كان يدعى حاطب بن أمية بن رافع ، وكان له ابن يقال له : يزيد بن حاطب ، أصابته جراحة يوم أحد ، فأتي به إلى دار قومه وهو بالموت ، فاجتمع إليه أهل الدار ، فجعل المسلمون يقولون له من الرجال والنساء : أبشر يابن حاطب بالجنة ؛ قال : وكان حاطب شيخا قد عسا في الجاهلية ، فنجم يومئذ نفاقه ، فقال : بأي شيء تبشرونه ؟ بجنة من حرمل ! غررتم والله هذا الغلام من نفسه . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : كان فينا رجل أتيّ لا يُدرى ممن هو ، يقال له : قزمان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا ذكر له : إنه لمن أهل النار ، قال : فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا ، فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين ، وكان ذا بأس ، فأثبتته الجراحة ، فاحتمل إلى دار بني ظفر ، قال : فجعل رجال من المسلمين يقولون له : والله لقد أبليت اليوم يا قزمان ، فأبشر ، قال : بماذا أبشر ؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ، ولولا ذلك ما قاتلت . قال : فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته ، فقتل به نفسه .
|